10 يوليو 2024م

الدين الحضاري

إن الناظر في تاريخ الأمم والشعوب والحضارات عبر القرون ومن خلال ما خلفته هذه الحضارات من المنجزات البشرية يجد أن شريعة الإسلام من أسبق المرجعيات التي تولد عنها مظاهر الحضارة والمدنية في تاريخ الإنسانية؛ فقد انطلق هذا الدين الذي نتج عنه الحضارة الإسلامية من نص رباني في القرآن الكريم يعبر عن منطلقات الحضارة؛ حيث يقول الله عز وجل: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق:1] فهذا النص الإلهي يحمل عناصر بناء الحضارة من حيث الأمر بالقراءة الدال على الفكر وإعمال العقل وكذلك النظر إلى الخلق والكون وإعمال الفكر فيهما.

فلم يكن الدين الإسلامي في عقيدته وتشريعاته وقيمه ومبادئه مجرد نصوص جامدة غير قابلة للتفاعل مع الجنس البشري وحياته على هذه الأرض؛ وإنما كان منهج حي متكامل مؤهل لصنع حضارة إنسانية في أي مجتمع وتحت أي ظروف، فهذا الدين أخرج أروع النماذج الحضارية في مجتمع الصحراء والبادية، وكذلك أنتج أعلى مظاهر الفكر والآداب والعمارة والفنون المختلفة في مجتمع المدينة والدولة المترامية الأطراف بصور مختلفة متنوعة قلما توجد في حضارة من الحضارات.

هذه الصورة الحضارية لدين الإسلام نتجت من أن محور هذا الدين كان بناء الإنسان عقديًّا وفكريًّا وأخلاقيًّا؛ من حيث إرشاده إلى أصل الكون ووحدانية الخالق وعظيم صفاته وتدبير ملكه سبحانه وتعالى، وكذلك من حيث بيان مهمة الإنسان على هذه الأرض وعمارتها وفقًا للمنهج الرباني وعدم إهمال نصيب الإنسان من الدنيا ومراعاة وحدة الأصل الإنساني، والربط بين سلوك الإنسان في هذه الدنيا وبين مصيره في الآخرة، إلى جانب تكوين شخصية الفرد المسلم عقليًا ووجدانيا، هذه الأصول الكلية من دين الإسلام أثمرت مظاهر ومعاني الحضارة الإنسانية الإسلامية المتكاملة.

فعندما نتكلم ونعلن أن شريعة الإسلام كعقيدة وسلوك وتشريع هي شريعة حضارية إنسانية؛ فإن هذه الحقيقة لها من الأدلة والشواهد على مر القرون ما يقر به العقل وتصدقه الحواس ويشهد له الواقع؛ ومن هذه الأدلة والشواهد:

- موقف الإسلام من هذه الحياة الدنيا، فلم يطلب الإسلام من أتباعه نسيان أمرها والزهد فيه وعدم الالتفات لمتطلبات الحياة؛ بل إن الناظر لآيات القرآن الكريم يجد أن عمارة الأرض وإصلاحها والسعي في تحصيل الرزق وعدم الإفساد في الأرض والمحافظة على نعم الله هي أحد محاور القرآن الكريم الكلية.

- الطبيعة المرنة لأحكام الشريعة الإسلامية واتصافها باليسر والمرونة ونفي الحرج والمشقة وتوافقها مع جميع الظروف الإنسانية والبيئية والتاريخية بما يحقق تحصيل ورعاية مصالح الإنسان، فلم يكن الدين الإسلامي وأحكامه في يوم من الأيام عائقا أمام راحة وسعادة الإنسان؛ وإنما كان يعمل على تحصيل ذلك وضبطه بمنهج مستقيم تتوازن فيه الحقوق والواجبات.

- موقف الدين الإسلامي من الآخر ومنجزات الجنس البشري على مر التاريخ لم يكن موقف رفض أو تنحية أو إقصاء وإنما كان موقف تكامل وتبادل وتفاعل مع حفظ الهوية الإسلامية، فمنذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعبر القرون ونحن نلحظ تفاعل المسلمين مع غيرهم من الأمم والتعاون في المصالح الدنيوية، بداية من امتزاج حضارة فارس والروم مع المسلمين مرورًا بحضارة الهند وإفريقيا، فقد أخذ المسلمون من هذه الحضارات ما وجدوه ملائما لهم على مستوى المعيشة والنظم وأساليب الحياة، وتعاونوا مع أبناء هذه الحضارات في إنتاج مظاهر جديدة تعمل على تطوير مدنية الإنسان، وقد مر بنا استفادة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه من نظام الدواوين عند أهل فارس كنموذج إداري ناجح، وكيف حافظ المسلمون على جانب من التراث الإنساني عن طريق حركة الترجمة التي نشطت في العصر العباسي فتم حفظ تراث وفلسفة  وعلوم اليونان من خلالها، كذلك قدم الإسلام لأهل الحضارات المجاورة له نموذجًا ربانيًا من القيم والأخلاق والمبادئ شهد له الجميع بصلاحيته كمرجعية أخلاقية للجنس البشري، يعمل على إضفاء الجانب الروحي على معالم الحضارة المادية للأمم الأخرى؛ فعلى سبيل المثال قد ينجح الإنسان في توليد الطاقات والقوى الجبارة التي يمكن أن تستخدم استخدامًا نافعًا أو تؤدي إلى فناء الجنس البشري، ودين الإسلام يمد الإنسان هنا بمنهج أخلاقي وقيم ومبادئ تضبط استخدام هذه الطاقات وتوجهها نحو المجالات النافعة.

- من أبرز الوجوه الحضارية لدين الإسلام هو تعامله مع تراث حضارة الآخر ونتاج نشاطه الفكري والثقافي والأدبي، فلم يأمر الدين بهدم مظاهر الحضارات السابقة أو إهمالها، وإنما أمر بالنظر فيها وجعل منها مدخلًا لقضية الإيمان والتوحيد، يقول الله عز وجل: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّه يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [العنكبوت: 20].

وقد رأينا على سبيل المثال كيف حافظ المسلمون عندما أتوا إلى مصر وكان فيهم الكثير من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على تراث ومظاهر حضارة المصريين القدماء، فلم يتعرضوا لها بسوء بل تم الحفاظ عليها كمظهر من مظاهر الحضارة الإنسانية.

- من أهم خصائص حضارتنا الإسلامية أنها لم تجعل أبدًا من الصراع مع أية حضارة إنسانية هدفًا أو مشروعًا أو مرجعية، فأطروحة صراع الحضارات منتفية تمامًا في دين الإسلام، بل جعلت الحوار  ورعاية المشترك الإنساني من منطلقات التعامل مع الآخر، وهذا وجه حضاري قلما وجد عند حضارات العالم، والتي نجد عند كثير منها أنها تجعل من النزاع والصدام أمرًا حتميًا لضمان استمرار وجودها وتطوره، فلم تكن العنصرية أبدًا من معاني الإسلام أو مظاهر حضارته؛ وإنما كان شعاره في التعامل مع الجنس البشري نابعًا من قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات:12]. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الناسُ كلُّهُمْ بَنُو آدمَ وآدَمُ خُلِقَ من تُرَابٍ»([1]). فحملت الحضارة الإسلامية معاني المساواة والعدل والرحمة والتسامح ورعاية المشترك الإنساني بين أفراد الجنس البشري، وتركت حساب الخلق على ربهم، وهذه أعلى مظاهر الإنسانية والمدنية التي تعمل المواثيق الدولية والعاملين في مجالات حقوق الإنسان على تحقيق بعض معانيها.

- العناية بالأسباب وأدوات تكوين الحضارة في المجالات المختلفة من أوجه مدنية وواقعية الدين الإسلامي، فلم يُحِل الإسلام أمر الدنيا ومعيشة الخلق والرزق إلى أمور غيبية فقط؛ بل دعا إلى ممارسة الأسباب والأخذ بها رعاية لنواميس الكون وسننه التي وضعها الله سبحانه وتعالى، مع اعتبار البعد الإيماني والنظر لتدبير الله عز وجل للخلق، فحث الإسلام على التوكل وحذر من التواكل، يقول الله عز وجل: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ [الملك:15] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز»([2]).

- ومن الأوجه الحضارية لدين الإسلام وشريعته قدرته على إرساء دعائم المجتمع والجماعة وفقًا لنظام متكامل متوازن عقيدة وفقهًا وسلوكًا يحمل بين جوانبه عوامل استقراره وتطوره وتواصله مع باقي المجتمعات، يتم فيه الاهتمام بتنمية القدرات العقلية لدى أفراده، ومحاربة العقلية الخرافية، بحيث يستطيع الإنسان المسلم من خلال التزامه بهذا الهدي لبناء الشخصية المسلمة أن يتوافق مع أي ظروف معيشية في أي مكان في العالم ويمد الجسور بينه وبين غيره من الأعراق والأجناس المختلفة.

- وقد جاءت أقوال العلماء من الشرق والغرب شاهدة على المعاني السابقة؛ فيقول جوستاف لوبون في كتابه حضارة العرب: »إن حضارة العرب المسلمين قد أدخلت الأمم الأوربية الوحشية في عالم الإنسانية، فلقد كان العرب أساتذتنا.. وإن جامعات الغرب لم تعرف لها مدة خمسة قرون موردًا علميًا سوى مؤلفات العرب، فهم الذين مدَّنوا أوربة مادة وعقلًا وأخلاقًا، والتاريخ لم يعرف أمة أنتجت ما أنتجوه.. إن أوربة مدينة للعرب بحضارتها.. وإن العرب هم أول من علَّم العالم كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين»([3]).

ويقول المؤرخ الإنجليزي جورج ويلز: «كل دين لا يسير مع المدنية في كل أطوارها فاضرب به عرض الحائط، وإن الدين الحق الذي وجدته يسير مع المدنية أينما سارت هو الإسلام.. ومن أراد الدليل فليقرأ القرآن وما فيه من نظرات ومناهج علمية، وقوانين اجتماعية، فهو كتاب دين وعلم واجتماع وخُلُق وتاريخ، وإذا طُلب مني أن أحدد معنى الإسلام؛ فإني أحدده بهذه العبارة: الإسلام هو المدنية»([4]).

فقد كان دين الإسلام وحضارته مصدر خير وأمن وطمأنينة لجميع الأجناس والشعوب في جميع الأماكن والأزمنة حيثما حل؛ وذلك نظرًا لطبيعته الربانية فقد جاء هذا الدين من عند رب العالمين، أرحم الراحمين بخلقه، العليم بما يصلحهم، القائل في كتابه الكريم في خطاب إلهي لكل الخلق: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [الحج:65].

 

([1]) أخرجه الترمذي في أبواب المناقب، باب في ثقيف وبني حنيفة (3955) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

([2]) أخرجه مسلم في كتاب  القدر، باب  في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله وتفويض المقادير لله (2664) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

([3]) انظر: حضارة العرب  (ص26-276-430-566)  جوستاف لوبون -  ترجمة: عادل زعيتر- الطبعة الثالثة-  ط البابي الحلبي.

([4]) انظر:  الإسلام والمبادئ المستوردة (ص84) د. عبد المنعم النمر- دار الشروق- القاهرة .