10 يوليو 2024م

المسئولية الفردية والجماعية

قررت الشريعة الإسلامية مبدأ المسئولية الفردية والجماعية، الخاصة والعامة، وجعلت هذا المبدأ من مكونات شخصية المسلم التي لا يكتمل إيمانه إلا برعايتها وتحقيق معانيها، وجعلت التقصير في ذلك من مظاهر عدم الالتزام بآداب الإسلام وتعاليمه، فعنصر المسئولية بكافة صوره ومستوياته وتطبيقاته هو أحد معاني التدين الصحيح الذي يجب على الفرد المسلم الاهتمام بتحصيل معانيها في شخصيته وتحويلها إلى منهج حياة وأسلوب عيش.

 وإذا نظرنا لهذا الأمر بصورة كلية شاملة لوجدنا أن الإسلام كعقيدة وشريعة يعد في ذاته المسئولية العظمى وأمانة الله الكبرى التي تحملها الإنسان ومنه وعنه تتفرع سائر الواجبات التي يتحملها المسلم في حياته الفردية والجماعية، فمنطلق مبدأ المسئولية هو معالم هذه الشريعة ومعاني الكتاب والسنة، فحياة الفرد المسلم وشخصيته لا تستقيم إلا من خلال مبدأ المسئولية، ومعرفة الواجبات كما يعرف الحقوق، ثم بعد ذلك يتبلور الأمر نحو مبدأ المسئولية الجماعية لجميع أفراد المجتمع، بما يحقق الاستقرار والأمن ويعمل على تنمية المجتمع وتحصيل  الصور الحضارية اللازمة لحياة الإنسان، والحفاظ على القيم والأخلاق الضابطة للمجتمع، وعلى ذلك فلم تفرق الشريعة الإسلامية بين المسئولية الخاصة والمسئولية العامة من حيث الإلزام  والالتزام، ‏وكذلك لم تفرق الشريعة بين المسئولية الفردية والمسئولية الجماعية، فلكل من  الفرد والجماعة واجباته التي قررتها الشريعة وحددت أبعادها، فمنها الخاص والفردي ومنها الجماعي، ومنها العيني ومنها الكفائي، مما شكل منظومة متوازنة لا يحدث فيها اختلاف أو اختلال أو تضاد أو تناقض بين مسئولية الفرد ومسئولية الجماعة، وكذلك تتسم هذه المنظومة بالواقعية والقابلية للتطبيق السهل الميسور، فلا مجال فيها للنظريات الخيالية التي لا تصلح للفرد ولا للمجتمع وإنما راعت جميع الجوانب النفسية والمادية للفرد والجماعة.

ومن النصوص الشرعية التي تؤصل لمعاني المسئولية في الإسلام، قول الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال: 27] وقول النبي صلى الله عليه وسلم:    «كلكم راع ومسئول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل في أهله راع وهو مسئول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسئولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راع وهو مسئول عن رعيته»([1]).

فهذا الحديث الشريف يؤصل لمعاني المسئولية في شريعة الإسلام، ويوضح ملامح الواجبات الخاصة والعامة.

ومن خلال ما سبق يتقرر لدينا أن مرجعية المسئولية في الإسلام ربانية إلهية متكاملة لا مجال فيها للأهواء والأغراض؛ وإنما هي تسليم وخضوع وطاعة لرب العالمين، فتمثل بذلك أعلى أنواع العبودية والقربات لله سبحانه وتعالى، فلسان حال الفرد والجماعة يقول: أطعنا وتحملنا ما أمرتنا به من الأمانات والالتزامات في شريعتك يا رب السماوات والأرض.

- العلاقة بين المسئولية الفردية والجماعية:

لا تنفصل المسئولية الفردية عن المسئولية الجماعية في الإسلام؛ وإنما هي تكاملية متداخلة تتلاقى مع بعضها البعض، ويمد كل منهما الآخر في تبادل وتفاعل لا يتوقف، فما هو مسئولية فردية يُكَون الصورة العامة للمسئولية الجماعية؛ فعلى سبيل المثال موقف الفرد المسلم من مرافق وموارد مجتمعه ورعايتها من حيث أنها مسئولية فردية واجبة عليه، تعود عليه بالفوائد والرعاية من خلال توافر وتكامل مسئولية المجتمع عن مجال رعايته كفرد، فكلما ارتفع مستوى العناية بالمسئولية الفردية، ارتفعت مستويات العناية بالمسئولية الجماعية، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا»([2]). وتداخل المسئولية الفردية والجماعية يؤدي لحفظ وجود المجتمع وانضباط نظامه ومثال ذلك ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعا»([3]).

فكما أن الإنسان له حق الحرية في أفعاله، كذلك عليه مسئولية عن أن تكون أفعاله وتصرفاته لا تتعارض مع مصلحة المجموع، وكذلك واجب ومسئولية المراقبة والرعاية من المجموع للفرد لحمايته وحماية المجموع.

 

 

- الجانب الأخلاقي للمسئولية في الإسلام:

من أهم مزايا مجال المسئولية في الإسلام ربطه بالجانب الأخلاقي والقيمي من حيث أنه يخضع في منطلقه إلى النظر إلى رقابة الله عز وجل، فلو لم توجد رقابة بشرية فإن المسلم يجد نفسه مطالبًا شرعًا بواجبات المسئولية الفردية والجماعية، هذا بالإضافة إلى توافر عنصر الرحمة والرفق والإيثار ورعاية البعد الإنساني في المسئولية الإسلامية والحرص على تطبيقه وعدم إهماله.

- من ملامح المسئولية الفردية في شريعتنا الإسلامية:

وأول أبواب المسئولية الفردية هي مسئولية الإنسان أمام ربه عز وجل، من حيث أنه وهبه سبحانه وتعالى نعمة الحياة وجعله مستخلفًا في هذه الأرض حاملًا للمنهج الرباني مكرمًا من الله، فيتحتم عليه من خلال ذلك رعاية ما أمره الله به سبحانه من معاني الإيمان وسلامة العقيدة والبعد عن المعاصي والإفساد في الأرض، واستقامة السلوك ورعاية الواجبات وعدم التفريط فيها وفقًا لشريعة الإسلام وقيمها.

- ومن أهم مجالات المسئولية الفردية، التثبت من موارد ومصادر التكوين النفسي والعقلي لدى الفرد، فلا يجوز أن يجعل الفرد من نفسه مجرد متلقٍّ للأفكار والثقافات المختلفة والتوجهات الفكرية والدعوات المجتمعية الحاملة لرؤية تختلف عن قيم مجتمعه وأخلاقه دون الرجوع إلى المرجعية الشرعية الحاكمة لمثل هذه الأمور، فالفرد المسلم قد كفل الله له العصمة والسلامة في هدي الكتاب والسنة وما يتفرع عنهما من المعاني العظيمة، فلا يجوز له أن يتلقف كل ما هو وارد من الثقافات المغايرة بدون ضابط شرعي،  مما ينعكس سلبًا بعد ذلك على طريقة تفكيره وأسلوب حياته وانتمائه لمجتمعه وأمته، فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تكونوا إمعة، تقولون: إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا»([4]).

- ومن سمات المسئولية الفردية التي يجب رعايتها الإتقان؛ فإذا كلف الإنسان بإنجاز عمل ما فإن من تمام المسئولية الشرعية المتعلقة به أن يؤديه على أكمل الوجوه الممكنة، وذلك لأن العمل الصالح المتكامل هو علة الخلق والإيجاد وهو مادة الابتلاء والاختبار في الدنيا ويبنى عليه الفلاح في الأولى والفوز في الآخرة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه»([5]).

ومظاهر المسؤولية الفردية تمتد لتشمل جميع صور الحياة، فالفرد مسئول عن نفسه ودينه وأفعاله، وعن التزامه بالأخلاق وطريقة تفكيره ومنهجه وطريقه في الحياة، وعليه أن يكون إيجابيًا تجاه نفسه وأسرته وعمله ووطنه ومجتمعه والنظام الاجتماعي والناس أجمعين، فيقدم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، فيمارس حياته وفقًا للقيم الإسلامية، ويجعل من نفسه عنصرًا نافعًا ينتج الخير في كل مكان.

ومن ملامح المسئولية الجماعية:

- التكافل الاجتماعي بشقيه المادي والمعنوي، والعمل على سد الحاجات هو أحد أوجه المسئولية الجماعية للمجتمعات التي يتحملها جميع أبناء المجتمع من مختلف الطوائف، من خلال العمل على إيجاد الآليات المناسبة لحل المشكلات الاجتماعية بكافة صورها، وهذا الباب أكدته الشريعة الإسلامية؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ««إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم»([6]).

-  القيام بما تحتِّمه المسئولية في أوقات الأزمات التي يمر بها المجتمع من أهم التكليفات الشرعية في هذا الباب؛ فقد تتعرض المجتمعات والأوطان لبعض المشكلات التي تتطلب من جميع أبناء المجتمع التكاتف والترابط والصبر للعبور بالوطن إلى بر الأمان والمحافظة على كيانه ووجوده.

- المحافظة على الآداب العامة والأخلاق والقيم، من أهم أبواب المسئولية الجماعية، فالمجتمعات المسلمة والعربية لها من الخصائص الأخلاقية والقيمية ما يميزها عن غيرها، والمسئولية الشرعية توجب الحفاظ على هذه المنظومة بواسطة العمل المجتمعي الذي يعمل على الحفاظ على هويتنا من خلال حملات التوعية بصورها المختلفة.

-  بذل النصح والإخلاص في رعاية الواجب وتحقيق معاني المسئولية، والتعاون مع هيئات المجتمع في تحقيق صور الاستقرار والتنمية وحفظ الأمن؛ فقد أخبرنا النبي ﷺ بوجوب النصح والتناصح، فقال ﷺ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: «لله وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ»([7]).

ومن مجالات المسئولية واجبنا كمجموع تجاه وطننا الذي نعيش على أرضه؛ فنحن مكلفون شرعًا بالعمل على حفظه، والمساهمة في تنميته بأداء الواجبات على كافة المستويات؛ ورعاية مقدراته والتعاون مع المؤسسات الوطنية، والبعد عن جميع مظاهر السلبية، وكذلك الحذر من الدعاوى التي تهدف إلى العصف بكيان الوطن ومقدراته ومستقبل أبنائه والتي تروج لها التيارات المنحرفة المتطرفة التي تريد خلق أجواء من الفوضى وعدم الاستقرار.

 

([1]) أخرجه البخاري في كتاب المساقاة،  باب: العبد راع في مال سيده، ولا يعمل إلا بإذنه (2409) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

([2])متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب تعاون المؤمنين بعضهم بعضا (6026) ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم (2585) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

([3]) أخرجه البخاري في كتاب  الشركة، باب هل يقرع في القسمة والاستهام فيه (2493) من حديث  النعمان بن بشير.

([4]) أخرجه الترمذي  في كتاب البر والصلة، باب  ما جاء في الإحسان والعفو (2007) والبزار في مسنده (2802) والطبراني في الكبير (9/152) من حديث  حذيفة بن اليمان، وقال عنه الترمذي: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

([5]) أخرجه أبو يعلى في مسنده (4386) والطبراني في الأوسط (897) من حديث عائشة رضي الله عنها.

([6]) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب  الشركة، باب الشركة في الطعام والنهد والعروض (2486) ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل الأشعريين رضي الله عنهم (2500) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

([7])أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة (55) من حديث تميم الداري رضي الله عنه.